المشهد الثاني:
في بيت فاطمة وقد جلس على وزوجه وجارية اسمها فضة وكان الحسنان مريضان .
وجاء سيدنا محمد (ص) يعودهما ومعه صحابيان قال أحدهما :
- يا أبا الحسن لو نذرت في ابنيك نذرا أن عافاها الله.
قال علي (ع):
- أصوم ثلاثة أيام شكرا لله .
قالت فاطمة (ع)
- وأنا كذلك .
وقالت فضة :
- وأنا أيضا .
وقال الحسنان :
- ونحن نصوم .
وبعد أيام ألبس الله المريضين ثوب العافية حان وقت الوفاء بالنذر فلقد نهض الحسنان من فراش المرض.. وعادت إلى وجهيهما دماء العافية , والسماء تنتظر نذرا نذره الإنسان .. نذرا يقدمه إلى نفسه ليكون قريبا من عوالم مغمورة بالنور..
لا شيء في منزل فاطمة.
انطلق علي إلى شمعون رجل من خيبر, رجل شهد انهيار حصون مليئة بالسلاح .. بالذهب .. بالذكاء أمام رجل لا يملك سوى سيف وقلب تنطوي في حناياه النجوم. وها هنا اليوم يأتي يطلب شيئا عجيبا .. إنه يطلب قرضا ثلاثة أصواع من الشعير .. الرجل الذي اقتلع باب (( القموص )) أقوى حصون خيبر اليهودية وقهر بذلك خيبر .. جاء يطلب حفنة من شعير .. وامرأته بنت محمد .. تملك أرض (( فدك )) .
تمتم شمعون وقد هزته المفاجأة :
- هذا هو الزهد الذي أخبرنا به موسى بن عمران في التوراة :
طحنت فاطمة صاعا .. الرحى تدور و (( فضة )) فتاة تعيش في منزل فاطمة .. تجمع الدقيق .. صار الدقيق عجينا .. ثم خمسة أقراص لكل صائم قرص شعير !
النجم المهيب يهوي باتجاه المغيب .. يرسل أشعة الوداع يعلن نهاية يوم من حياة الإنسان والأرض .. الأسرة الصائمة تتهيأ للإفطار .. لقمة خبز تقيم أود الجسد الآدمي ليكمل رحلته باتجاه النور.
هتف إنسان جائع :
- مسكين ! أطعموني أطعمكم الله .
وحده الصائم في لحظة الإفطار يدرك آلام الجياع عندما تتلوى المعدة خاوية تبحث عن شيء تمضغه وإلا مضغت نفسها .
وقدم الصائمون خبزهم .. وافطروا على الماء .. واستأنفوا رحلة الجوع .. الجوع زاد المسافر في ملكوت السماء .. حيث تلال النور وبحيرات تزخر بالنجوم .. الجوع يلجم الشيطان القابع في الظلمات .. يسحقه فإذا هو خائر كثور محطم القرون.
ومر يوم آخر والصائمون في رحلة اكتشاف ينابيع الحب الأزلي .. وكل شيء آيل إلي الزوال إلا الحب .. والحب نداء الله إلى النفوس البيضاء.
ومر يتيم ... يا لوعة التيم في ساعة الغروب .. الكائنات تعود إلى أوكارها والطيور إلى أعشاشها والأطفال إلى أحضان زاخرة بالدفء , وفي ساعة الغروب تتجمع الدموع في عيون اليتامى كسموات مشحونة بالمطر .. يتجمع البكاء في القلب .. والمرارة في النفس , فكيف إذا اجتمعت مع الجوع .. وهل تتحمل نفوس الأطفال البرد والجوع!!
نادى يتيم في لحظة الغروب الحزين:
-أطعموني .. مما أطعمكم الله.
هناك في أعماق النفوس البيضاء كنوز من اللذة أين منها لذائذ البطن .. فكيف مع نفوس براها الجوع والنذر حتى عادت شفافة كالضياء ساطعة بالنور..
لبى الصائمون نداء اليتيم .. فباتوا ليلتهم يطوون رحلة مضنية تكاد تمزق الجسد وتحيله إلى حطام .. حيث يشهد عالم الإنسان اللانهائي انتصار الملائكة وهزيمة الشيطان .. إلى الأبد.
السماء تراقب نفوسا في الأرض تطوي مسافات الجوع وفاء بنذرها , وفي اليوم الثالث مر أسير ينشد لقمة خبز أو تميرات.
الأجساد ترتعش أمام أمواج الجوع .. العيون غائمة .. والوجود يغمره ضباب ودخان .. ورياحين النبوات تهتز .. تذبل أو تكاد .. والنفوس تشتد نصوعا والورود تضوعا ..
فاطمة تزداد نحولا .. غارت عيناها .. وصوتها زاد وهنا على وهن وهي قائمة تصلي في المحراب..
وفي منزل آخر الأنبياء هبط جبريل يحمل هدية السماء ..
سورة الإنسان وهي :
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3) إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَا وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4) إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (
إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12) مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14) وَيُطَافُ عَلَيْهِم بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَّنثُورًا (19) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21) إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاء وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُورًا (22)
ورأت فاطمة في تلك الليلة ما لا عين رأت و ما لا أذن سمعت ولم يخطر على قلب بشر .